أعلن عن وصول المعروض النقدي في الاقتصاد المصري إلى نحو 13.68 تريليون جنيه مصري، بينما بلغ النقد المتداول خارج البنوك قرابة 2.44 تريليون جنيه. أرقام ضخمة لا تبدو للوهلة الأولى سلبية، فالنقود في ذاتها ليست شرًا، لكن الخطر الحقيقي لا يكمن في حجم النقود، بل في غياب ما يقابلها من إنتاج حقيقي.
خلال السنوات الأخيرة، تم ضخ كميات هائلة من السيولة في الاقتصاد لتمويل مشروعات قومية كبرى. هذه المشروعات – رغم ضخامتها – لم تُنتج عائدًا نقديًا أو صناعيًا يغطي تكلفة تمويلها، ولم تُسهم في زيادة الصادرات أو إحلال الواردات. النتيجة كانت طبيعية: زيادة في النقود دون زيادة في السلع والخدمات، أي تضخم حتمي.
التضخم التراكمي: الخطر الصامت
التضخم في مصر ليس ظاهرة موسمية أو موجة عابرة، بل هو تضخم تراكمي. قد تعلن الجهات الرسمية أن معدل التضخم انخفض من 30% إلى 11%، لكن الحقيقة أن الأسعار لا تعود إلى الوراء؛ بل تستمر في الارتفاع بوتيرة أبطأ. المواطن لا يشتري بسعر أقل، وإنما بسعر أعلى من الشهر السابق، والدخل لا يلحق بهذا التسارع.
ومع اقتراب انتهاء مدة شهادات ادخارية بنحو 1.3 تريليون جنيه في يناير القادم، تدخل المنظومة المصرفية سباقًا محمومًا لإعادة امتصاص هذه السيولة عبر أسعار فائدة مرتفعة. هنا تتجلى المفارقة: أموال تُمنح فوائد دون إنتاج، ولا تضيف قيمة حقيقية للاقتصاد، بل تؤجل الانفجار بدلًا من معالجته.
الفائدة المرتفعة ليست حلًا
الفائدة العالية لا تخلق اقتصادًا قويًا، بل اقتصادًا كسولًا. المودع يحصل على عائد مضمون دون مخاطرة أو مشاركة في الإنتاج، بينما يتحمل الاقتصاد الكلي تكلفة هذا العائد عبر تضخم أعلى ودين متزايد. هكذا ندخل حلقة مفرغة:
نطبع نقودًا → نرفع الفائدة لامتصاصها → تزيد كلفة الدين → نطبع نقودًا جديدة.
هل الحل في إعدام النقود؟
نظريًا، سحب جزء من الكتلة النقدية وإعدامها قد يخفف التضخم. عمليًا، هذا الحل صعب اجتماعيًا، لأنه قد يؤدي إلى ركود حاد وبطالة واسعه. المشكلة ليست فقط في النقود الموجودة، بل في استمرار إنتاج المشكلة ذاتها.
الحل الجذري: الإنتاج قبل النقود
الحل الحقيقي يبدأ من نقطة واحدة واضحة:
انسحاب الدولة من السوق لا من التنظيم.
الدولة يجب أن تكون مشرّعًا ورقيبًا وضامنًا للمنافسة، لا منافسًا للقطاع الخاص. فتح المجال على مصراعيه للاستثمار الحقيقي، ووقف مزاحمة القطاع العام للقطاع الخاص، هو السبيل الوحيد لتحويل السيولة إلى مصانع، وتكنولوجيا، وصادرات، وفرص عمل.
كما يجب ربط أي توسع نقدي بزيادة إنتاجية قابلة للقياس، لا بإنفاق استهلاكي أو مشروعات بلا عائد. النقود التي لا تنتج، تتحول سريعًا إلى تضخم، والتضخم إذا طال أمده يتحول إلى فقر مزمن.
خاتمة
مصر لا تعاني من نقص في الأموال، بل من فائض نقود بلا إنتاج. وكل تأخير في تصحيح المسار يعني أن المواطن سيدفع الثمن في شكل أسعار أعلى ودخل أقل وقوة شرائية متآكلة. الاقتصاد لا يُدار بالشعارات، بل بقانون بسيط لا يرحم:
كل جنيه لا يقابله إنتاج، يعود إلينا تضخمًا.