آراب فاينانس: تستقبل مصر حاليًا بعثة صندوق النقد الدولي، في زيارة تستغرق نحو أسبوعين لبدء المراجعتين الخامسة، والسادسة من القرض البالغ 8 مليارات دولار، وذلك بعد قرار الصندوق في يوليو الماضي بدمج المراجعتين في مراجعة واحدة.
وقال صندوق النقد الدولي بداية شهر أكتوبر الماضي إن مصر إذا أرادت المضي قدمًا في مراجعات برنامج الصندوق، فعليها أن تسير في تنفيذ إصلاحات إضافية خاصة فيما يتعلق بسياسات ملكية الدولة والتخارج من الأصول.
من جانبها قالت الدكتورة مروة الشافعي الخبيرة الاقتصادية والمصرفية، في تصريحات حصرية لـ آراب فاينانس إن المراجعة الحالية (التي تجمع بين المراجعتين الخامسة والسادسة) تستند إلى عدد من المحاور الإصلاحية الأساسية، والتي صُممت لتعزيز قدرة الاقتصاد الكلي على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية معًا، وتركز هذه المتطلبات على تحقيق التوازن بين الضرورات المالية الملحة والحفاظ على الاستقرار الاجتماعي.
الصندوق يطالب بـ استراتيجية لتحسين مؤشرات المالية العامة
وأوضحت أنه بالإضافة إلى تعزيز الاستدامة المالية عبر إدارة الدين والموازنة يطالب البرنامج بوضع وتنفيذ استراتيجية متوسطة المدى، لتحسين مؤشرات المالية العامة، حيث تشكل خدمة الدين العام عبئًا متصاعدًا تجاوز إيرادات الدولة مؤخرًا، ويتضمن ذلك العمل على رفع كفاءة الإنفاق الحكومي، وزيادة الحصيلة الضريبية من خلال توسيع القاعدة، وتطوير النظم الإلكترونية، بالإضافة إلى خفض العجز الكلي تدريجيًا إذ تحظى قضية إعادة هيكلة ديون الدولة بأهمية خاصة في هذه المراجعة.
وأضافت الخبيرة الاقتصادية والمصرفية أن الإسراع في وتيرة برنامج طرح حصص في الشركات المملوكة للدولة يُعد شرطًا جوهريًا لتعزيز دور القطاع الخاص، وزيادة الإيرادات الحكومية غير الضريبية، حيث أبدى الصندوق مرونة مؤخرًا بشأن الجداول الزمنية لهذا البرنامج، شريطة تقديم خطة عمل واضحة وذات مصداقية، ومن المتوقع أن يبدأ التنفيذ العملي في قطاعات استراتيجية كالطاقة المتجددة، على أن يتوسع ليشمل قطاعات أخرى وفق جدول زمني متفق عليه.
صندوق النقد يشترط ضرورة تسريع وتيرة الطروحات
ويتفق الدكتور حسين العسيلي الخبير الاقتصادي مع رؤية الشافعي إذ يرى أنه من الجوانب الأساسية التى تشكل محورًا رئيسيًا فى مفاوضات المراجعة الحالية، برنامج الطروحات الحكومية وما يمثله من أهمية فى إعادة هيكلة الاقتصاد المصرى، فالصندوق ينظر إلى برنامج الخصخصة باعتباره أحد المفاتيح الجوهرية لجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وتعزيز موارد النقد الأجنبى، وتقليص الحضور الواسع للدولة فى النشاط الاقتصادى لصالح القطاع الخاص.
أما على مستوى التمويل المتوقع، فتشير الترجيحات وفق العسيلي إلى أن مصر قد تحصل على نحو 2.4 مليار دولار فور اجتياز المراجعتين بنجاح، وهو مبلغ برغم محدوديته مقارنة بالتزامات الدولة، فإنه يحمل قيمة معنوية واقتصادية كبيرة، إذ يعكس استعادة الثقة فى الاقتصاد المصرى، ويحسّن القدرة على إدارة الالتزامات قصيرة الأجل، ويبعث بإشارة إيجابية إلى الأسواق العالمية بشأن احترام الدولة لتعهداتها السابقة.
ويرى العسيلي، أن هذه التطورات لا تنفصل عن نظرة وكالات التصنيف الائتماني الدولية، التى تتابع بدقة أداء مصر ضمن برنامج الصندوق باعتباره معيارًا رئيسيًا لتقييم قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها، وقد يؤدى نجاح المراجعتين إلى تثبيت أو تحسين النظرة المستقبلية للتصنيف، بينما قد يتسبب الفشل فى زيادة تكلفة الاقتراض الخارجى، وتراجع ثقة المستثمرين الأجانب والمحليين على حد سواء.
ورفعت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني، توقعاتها لنمو الناتج المحلي الإجمالي في مصر للعام المالي (2025-2026)، من 4.8% إلى 5.2%.
وأوضحت "فيتش" أن هذا التسارع في النمو الاقتصادي يأتي مدعومًا بعدة عوامل رئيسية، تشمل الاستثمار المتزايد، ونمو الصادرات وتحسن المؤشرات الكلية للاقتصاد المصري.
وأبقت الوكالة في تقريرها السنوي حول آفاق الاقتصادات السيادية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لعام 2026 على التصنيف الائتماني لمصر عند درجة B مع نظرة مستقبلية مستقرة.
وأرجعت قرارها إلى تحسن مؤشرات القطاع الخارجي وتوفر دعم خارجي ملحوظ، في مقابل استمرار تحديات تتعلق بارتفاع الدين العام وحجم الاحتياجات التمويلية.
تأثير البرنامج الإصلاحي للصندوق على الاقتصاد المصري
وفيما يتعلق بـ تأثير هذه الإصلاحات على الاقتصاد المصري تُحذر الشافعي من أن التكلفة الانتقالية لهذه الإصلاحات قد تكون باهظة، وتهدد المكاسب المرغوبة إذا أُسيئت إدارتها، فرفع الدعم عن المحروقات - خاصة في ظل اضطرابات البحر الأحمر وارتفاع تكاليف الشحن عالميًا - يضخّ صدمة تضخمية مركبة تُقدّر بنسبة تتراوح من 3 إلى 4% إضافية في مؤشر الأسعار، مما يضعف الدخل الحقيقي للأسر ويزيد الفقر، وقد يُلغي جزئياً أثر الزيادات الأخيرة في الأجور مما يعنى انخفاض القوة الشرائية للأفراد.
ويشير العسيلي إلى أنه من الطبيعى أن تترك أى زيادات محتملة فى أسعار الوقود والكهرباء أثرًا مباشرًا على معدلات التضخم، سواء بشكل فوري نتيجة ارتفاع تكاليف النقل والإنتاج، أو بشكل تدريجى مع انتقال الزيادات إلى أسعار السلع النهائية، لذلك ستعمل الحكومة (إن اضطرت إلى هذه الخطوة) على تطبيق زيادات تدريجية وحذرة لتفادى أى موجات تضخمية جديدة قد تؤثر على القوة الشرائية للمواطن وعلى استقرار السوق.
بينما يرى الدكتور رمزي الجرم الخبير المالي والمصرفي أن الارتفاع الأخير في سعر الوقود لم يكن مؤثرًا بشكل كبير كما كان متوقعًا، حيث إن زيادة جنيهان مرة واحدة على كافة أنواع الوقود ، لم يترك أثرًا يتناسب مع شدة الإجراء، وربما كان ذلك بسبب انخفاض نسبة السيولة النقدية في الاسواق بعد الإصلاحات النقدية التي تبناها البنك المركزي المصري خلال الفترة السابقة، مما ادى الى عدم تصاعد معدلات التضخم بشكل يتناسب مع شدة الإجراء المُتخذ.
ويؤكد الجرم أن المراجعتين الخامسة والسادسة، من شأنهما أن يعطوا دفعة للاقتصاد الكلي، على خلفية تغطية جزء من الفجوة الدولارية، والذي من الممكن ان يساهم في تأجيل رفع جزء من الدعم المخصص للكهرباء، والذي كان من المقرر له سبتمبر الماضي، وذلك من أجل حماية الطبقات الأكثر احتياجًا.
وتسارع معدل التضخم في مدن مصر لأول مرة منذ 4 أشهر خلال أكتوبر الماضي، مدفوعًا بارتفاع أسعار البنزين الأخيرة، وفقاً لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
وأظهرت البيانات نمو أسعار المستهلكين بالمناطق الحضرية في مصر على أساس سنوي خلال أكتوبر إلى 12.5%، مقارنة مع 11.7% في سبتمبر، في حين استقر معدل التضخم على أساس شهري عند 1.8%.
وتٌلمح الشافعي إلى أنه ونظرًا للتداعيات الاقتصادية الملموسة للأحداث الجيوسياسية، مثل الاضطرابات الملاحية في البحر الأحمر، يضع الصندوق في اعتباره إمكانية إعادة النظر في بعض الأهداف الكمية للبرنامج، شريطة أن يكون ذلك ضمن رؤية مالية متكاملة تحافظ على الثقة في مسار الإصلاح، إذ يؤكد الصندوق على ضرورة أن تركز السياسات على تنويع مصادر النقد الأجنبى وتعويض الخسائر في مصادر الناتج المحلي الاجمالى مثل قناة السويس.
وتعرضت قناة السويس لخسائر تزيد عن 9 مليارات دولار منذ بدأت جماعة الحوثي اليمنية هجماتها على السفن في البحر الأحمر، قبل أن تعود مؤخرًا للزيادة حيث أكدت هيئة قناة السويس في بيان لها، أن إيرادات القناة صعدت 14.2% على أساس سنوي بين يوليو وأكتوبر 2025، مشيرة إلى هدوء الأوضاع في البحر الأحمر بعد وقف إطلاق النار في غزة، وانتعاش حركة الملاحة عبر الممر المائي الحيوي.
وقال أسامة ربيع رئيس هيئة قناة السويس، إن 229 سفينة عادت للمرور عبر القناة في أكتوبر، وهو أعلى رقم شهري منذ بداية الأزمة في المنطقة، مشيراً إلى أن أحجام حركة المرور والحمولات أظهرت تحسناً نسبياً في الأشهر القليلة الماضية.
ضرورة العلاج الجذري لأزمة الديون
في الختام تؤكد الشافعي على ضرورة المعالجة الجذرية لهيكل الدين مع تسريع الطروحات أو التحول الجذري نحو اقتصاد إنتاجي قائم على الصادرات.
بينما يرى العسيلي أن قضية الدين العام ستظل واحدة من أعقد التحديات التى تواجه الاقتصاد المصرى، فارتفاع حجم الدين وفوائده يمثل ضغطًا مستمرًا على الموازنة العامة، ويحدّ من قدرة الدولة على توجيه الإنفاق نحو التنمية والاستثمار، ورغم أن نسبة الدين إلى الناتج المحلى لا تزال داخل الحدود المقبولة دوليًا، إلا أن وتيرة الزيادة وتكلفة خدمة الدين تفرض ضرورة تبنى استراتيجية أكثر صرامة تعتمد على ترشيد الاقتراض، وتحسين إيرادات الدولة، وجذب استثمارات حقيقية تقلل الاعتماد على الديون قصيرة الأجل.
وأشار العسيلي إلى أنه من الضروري بعد انتهاء البرنامج الحالي مع الصندوق أن تتجه مصر إلى برنامج إصلاح وطني أكثر عمقًا، يقوده القطاع الخاص لتحسين الإنتاجية، وتعزيز الشفافية والمنافسة العادلة داخل السوق.
وأفاد البنك المركزي في تقرير الموقف الخارجي للاقتصاد المصري 2024/2025 بأن إجمالي الدين الخارجي لمصر بلغ 161.2 مليار دولار في نهاية يونيو 2025، مقابل 156.7 مليار دولار في نهاية مارس 2025، بزيادة نحو 4.5 مليار دولار.