آراب فاينانس: تزايدت عمليات الإسراف في التمويل الاستهلاكي في مصر، حيث شهدت السنوات الأخيرة طفرة فى منح القروض الشخصية، وبطاقات الائتمان والتسهيلات الاستهلاكية، عبر شركات التمويل غير المصرفى، وبدلًا من أن تُوجَّه تلك القروض إلى أصول قابلة للرهن أو التسييل كالتى يوفرها التمويل العقارى، تدفقت إلى تمويل سلع استهلاكية سريعة التلف أو محدودة القيمة مثل الأجهزة المنزلية والإلكترونيات والمستلزمات المعمرة.
ووفق أحدث تقرير صادر عن الهيئة العامة للرقابة المالية، سجلت قيمة التمويل الاستهلاكي في مصر خلال أول 9 أشهر من العام الجاري 2025، ارتفاعًا ملحوظًا بأكثر من 57% لتصل إلى 66 مليار جنيه وخلال سبتمبر الماضي فقط، ارتفعت قيمة التمويل الاستهلاكي على أساس سنوي بنسبة 38% لتبلغ 9.3 مليار جنيه، كما زاد عدد العملاء خلال الشهر ذاته بنسبة مماثلة ليصل إلى 1.09 مليون عميل، مقارنة بـ390.2 ألف عميل في سبتمبر 2024.
أشار التقرير إلى أن تمويل شراء السيارات والمركبات استحوذ على 19% من إجمالي تمويلات سبتمبر الماضي، بينما جاءت الأجهزة الكهربائية، والإلكترونيات في المرتبة الثانية بنسبة 18.1%، تلتها الأجهزة المنزلية بنسبة 13.9%، ثم الهواتف المحمولة بنسبة 2.6%.
وخلال الفترة من يناير إلى سبتمبر من العام الحالي، شكلت الأجهزة الكهربائية والإلكترونيات 18% من إجمالي التمويل، كما سجلت السيارات والمركبات نسبة مماثلة .
سهولة الإجراءات ساهمت في زيادة عمليات التمويل الاستهلاكي
من جانبه قال الدكتور أحمد شوقي، الخبير الاقتصادي والمصرفي، في تصريحات حصرية لـ "آراب فاينانس" إن التمويل الاستهلاكي بدأ ينتشر بشكل كبير خلال الفترة الماضية، وذلك للعديد من الأسباب، حيث يلجأ بعض الأشخاص للتمويل الاستهلاكي من الشركات الخاصة نتيجة سهولة الإجراءات والمرونة في التعامل واختصار الوقت مقارنة بالإجراءات البنكية كتقديم الأوراق المستندية التي قد يراها البعض معقدة وتستغرق وقت أكثر.
وأضاف شوقي، أن شركات التمويل الاستهلاكي لديها مستهدفات سنوية ينبغي عليها تحقيقها، وهو ما يجعلها تقدم المزيد من التسهيلات في إجراءات الإقراض لعملائها، حتى لا تخسر شريحة كبيرة من المتعاملين، فضلًا عن أن الهيئة العامة للرقابة المالية عندما بدأت ترى أن هناك توسع كبير في تقديم التمويل الاستهلاكي، اضطرت تشدد إجراءات الرقابة والضوابط، على منح القروض لمؤسسات التمويل الاستهلاكي، وذلك للحفاظ على جودة محافظ التمويل التي تقيم من خلال نسبة العملاء المتعثرين مقابل إجمالي حجم المحفظة التمويلية، والمتعلقة بالتمويلات المقدمة.
ويبلغ عدد الشركات المرخص لها بمزاولة نشاط التمويل الاستهلاكي من الهيئة نحو 34 شركة، بجانب 12 مقدم خدمة.
ويُعد نشاط التمويل الاستهلاكي أحد الأنشطة الخاضعة لإشراف ورقابة هيئة الرقابة المالية، وهو التمويل المخصص لشراء السلع والخدمات لأغراض استهلاكية، منها الخدمات التعليمية واشتراكات الأندية الرياضية وخدمات السفر والسياحة، وخدمات صيانة السيارات والأجهزة والمعدات الاستهلاكية، وحلول الطاقة المتجددة للمنازل، والخاضعة لإشراف ورقابة الهيئة العامة للرقابة المالية، وفقًا لقانون التمويل الاستهلاكي رقم 18 لسنة 2020.
الرقابة المالية ستساهم في الحد من التوسع في عمليات التمويل الاستهلاكي
وأوضح شوقي أنه مع توجه هيئة الرقابة المالية لتشديد الرقابة على هذه المؤسسات التي تفرط في منح تمويل استهلاكي للعملاء سيكون لذلك أثر على تقليل معدلات التعثر، وسيقلل من احتمالات حدوث فقاعة مالية، لأن هناك توسع كبير وملحوظ في عمليات التمويل الاستهلاكي.
وأشار شوقي، إلى أنه بعد إعلان البنك المركزي التوجه نحو تخفيض أسعار الفائدة بدأ بعض العملاء يتجهوا للحصول على تمويلات استهلاكية نتيجة تراجع سعر الفائدة.
ومدّت الهيئة العامة للرقابة المالية الأربعاء في نهاية أكتوبر الماضي فترة إيقاف قبول طلبات التأسيس والموافقات المبدئية على تأسيس الشركات الراغبة في الحصول على ترخيص من الهيئة لمزاولة نشاطي تمويل المشروعات متناهية الصغر أو التمويل الاستهلاكي بالطرق التقليدية، كما قررت وقف قبول طلبات الترخيص بمزاولة نشاط تمويل المشروعات متناهية الصغر للجمعيات والمؤسسات الأهلية، وذلك لمدة عام قابل للتجديد، وفقاً للقرار رقم 237 لسنة 2025.
ويأتي هذا القرار في إطار حرص الهيئة المستمر على تحقيق الاستقرار المالي للأسواق والمؤسسات المالية غير المصرفية، بما يعزز دورها في دعم الاقتصاد القومي، وتلبية احتياجات الأفراد.
كما يستند القرار إلى التنامي الملحوظ في عدد الرخص الجديدة الصادرة عن الهيئة لشركات وجهات وجمعيات تعمل في نشاطي التمويل الاستهلاكي وتمويل المشروعات متناهية الصغر، قبل صدور القرار رقم 184 لسنة 2024 بإيقاف تلقي طلبات التأسيس، وهو ما يتطلب من الهيئة التأكد من الملاءة المالية للشركات القائمة ومقدمي الخدمات وفق بيان رسمي للهيئة.
وأضاف شوقي أن الدولة تتجه حاليًا لزيادة معدلات النمو عبر سياسة تيسيرية من خلال تقليل سعر الفائدة والتوسع في الأنشطة داخل الاقتصاد المصري لرفع الناتج المحلي الإجمالي.
وأكد أنه ينبغي تحسين جودة المحافظ التمويلية التي تقدم التمويل الاستهلاكي لتقليل معدلات تعثر العملاء، ليكون هناك تركيز أكبر على المستندات والأوراق المقدمة من جانبهم.
أبرز مخاطر الفقاعة المالية
ومن جانبه قال هشام حمزة الخبير الاقتصادي والمصرفي لـ آراب فاينانس إن أبرز المخاطر المتعلقة بحدوث فقاعة مالية نتيجة التوسع المفرط في التمويل الاستهلاكي والإقراض تتمثل في تراكم الديون بمعدلات تفوق نمو الدخول حيث يؤدي التوسع المفرط في الإقراض إلى زيادة التزامات الأفراد بشكل أسرع من قدرتهم الحقيقية على السداد، مما يرفع احتمالات التعثر، ومخاطر عدم السداد إذ إنه ومع زيادة القروض الاستهلاكية بشكل غير منضبط، يزداد عدد الأفراد غير القادرين على الوفاء بالأقساط، مما يضعف محافظ البنوك وشركات التمويل.
وأوضح حمزة أن السعي وراء زيادة المبيعات يؤدي إلى منح ائتمان لشرائح لا تتمتع بقدرة مالية كافية، الأمر الذي يصنع بيئة مشابهة لأزمات الائتمان العالمية مثل أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة الأمريكية 2007-2008.
وتابع: إن أهم المخاطر أيضا المتمثلة في الإفراط في التمويل الاستهلاكي تتمثل في تضخم أسعار السلع والخدمات نتيجة سهولة الحصول على التمويل الأمر الذي يؤدي إلى زيادة الطلب الاستهلاكي بصورة مبالغ فيها، فيؤدي ذلك إلى ارتفاع غير مبرر في الأسعار، مكوّنًا فقاعة سعرية في الأسواق.
وشدد حمزة على أن تراكم التعثرات المالية للعملاء يهدد استقرار شركات التمويل والبنوك، مما يرفع احتمالية حدوث اضطراب عام في النظام المالي إلى جانب أن حالات الإفلاس أو التعثر الواسع قد تؤدي إلى فقدان الثقة بين المتعاملين، مما يشجع على السحب أو الحد من الاقتراض، وهو ما يفاقم الأزمة، وقد يؤدي الي خروج بنوك من الخدمة، كما أن زيادة حالات الإفلاس نتيجة عدم القدرة على الوفاء بالالتزامات المالية ينعكس على استقرار الأسر ويزيد من مخاطر إفلاس الشركات المرتبطة بالتمويل الاستهلاكي.
وأوضح الخبير الاقتصادي والمصرفي أن الإفراط في القروض الاستهلاكية غير مجزي للنظام الاقتصادي ككل خاصة، وأنها سلع ليست مولدة للدخل أو الاستثمار، وبالتالي تنتهي بمجرد انتهاء المنفعة الخاصة منها، كما أن تلك السلع ليست مخزن للقيمة مثل الذهب والعقار. إضافة إلى أن شركات التمويل قد تستدين هي الأخرى في سبيلها لإعادة تمويل الأفراد بإجراءات وشروط أبسط، ومع زيادة طلب الأفراد علي السلع الاستهلاكية تزداد الأسعار في شكل فقاعة نتيجة زيادة الطلب غير المبرر، وتنتهي الفقاعة بالانفجار ويحدث ذلك في حالة عدم قدرة الأفراد علي السداد خاصة الأفراد ذوي الملاءة الائتمانية المنخفضة.
وأكد حمزة أن الأمر هنا يشبه كرة الثلج التي يزداد حجمها طالما تسقط سريعًا من أعلي الجبال ونتيجة طبيعية لعدم السداد قد تنتقل العدوى إلى أفراد أكثر لتؤدي إلى انهيار كارثي كما حدث أثناء الأزمة المالية العالمية عام 2008.
ضرورة التثقيف المالي للمتعاملين
وطالب حمزة بضرورة التثقيف المالي للمتعاملين حيث يلعب هذا التثقيف دورًا محوريًا في تقليل لجوء الأفراد إلى الاقتراض غير الضروري، وذلك من خلال مجموعة من الأدوار الأساسية أهمها تعزيز الوعي بمفهوم الأولويات المالية إذ يساعد التثقيف المالي الأفراد على فهم الفرق بين الاحتياجات الأساسية والرغبات الاستهلاكية، مما يجعل قرارات الشراء أكثر عقلانية ويقلل الميل إلى الاقتراض لشراء سلع غير ضرورية إذ يعد التقفيف المالي خطوة للحد من شراهة الشراء وتحول الفكر الي الادخار والاستثمار.
وشدد حمزة على ضرورة فهم تكلفة الديون ومخاطرها، وهذا الفهم يجعل الفرد أكثر حذرًا قبل الإقدام على الحصول على قرض استهلاكي مع حماية الفئات الأكثر عرضة للاستدانة مثل الشباب أو الأسر ذات الدخل المحدود؛ إذ يمكن للتثقيف المالي أن يزوّدهم بمهارات تمنع الوقوع في دوامة الديون أو الدخول في التزامات تفوق قدراتهم.
وأكد حمزة أن التثقيف المالي يسهم في تكوين جيل قادر على اتخاذ قرارات رشيدة تعتمد على التخطيط للمستقبل، لا على الاستهلاك اللحظي، ويعد هو خط الدفاع الأول ضد الإفراط في الاستدانة، فهو يمكّن الأفراد من اتخاذ قرارات واعية، وموازنة رغباتهم مع قدرتهم المالية، وفهم المخاطر الحقيقية للقروض الاستهلاكية، مما يؤدي في النهاية إلى استهلاك أكثر مسئولية ونظام مالي أكثر استقرارًا.
وفي ختام حديثه طالب حمزة بضرورة تشجيع الادخار كبديل آمن، لافتًا إلى أنه عندما يدرك الأفراد أهمية تكوين احتياطيات مالية صغيرة، يصبح الادخار خيارًا بديلًا عن الاقتراض، وبالتالي ينخفض الاعتماد على التمويل الاستهلاكي. كما يجب تحسين مهارات إدارة الميزانية ومواجهة الضغوط الإعلانية وثقافة الاستهلاك، حيث يساعد التثقيف المالي الأفراد على فهم أساليب التسويق والإقناع التي تدفعهم للشراء، وبالتالي يكون الفرد أكثر قدرة على مقاومة "الشراء بدافع العاطفة" مع تعزيز الشفافية في التعامل مع منتجات التمويل لأنه عندما يفهم المستهلك تفاصيل العقود، والغرامات، والرسوم المخفية، يكون أقل عرضة للاستغلال، فيختار المنتجات المالية الأكثر ملاءمة ودون مخاطر عالية.
جدير بالذكر أن عدد المستفيدين من نشاط التمويل متناهي الصغر بلغ نحو 3.6 مليون مستفيد، بينما وصل عدد المستفيدين من التمويل الاستهلاكي إلى نحو 7 ملايين مستفيد، بإجمالي تمويلات بلغت 56.2 مليار جنيه لمتناهي الصغر، و56.7 مليار جنيه للتمويل الاستهلاكي وفق بيان لـ هيئة الرقابة المالية أكتوبر الماضي.