شهدت عملة البيتكوين في السنوات الأخيرة تحولًا جذريًا مع دخول المؤسسات المالية والاستثمارية الكبرى إلى سوق العملات الرقمية. هذا التحول أثار تساؤلات حول مدى تأثير مشاركة المستثمرين المؤسسيين – مثل البنوك وصناديق الاستثمار وشركات التداول العامة – على سعر البيتكوين واستقراره. في هذا المقال نستكشف هذا الدور المتنامي للمؤسسات المالية، ونلقي نظرة على تبني المؤسسات للبيتكوين، وتأثير صناديق الاستثمار المتداولة (ETFs) على سعره، وكذلك استثمارات الشركات الكبرى في العملة الرقمية، إلى جانب مناقشة التحديات والفرص الناتجة عن هذا التبني المؤسسي، ومستقبل دور المؤسسات في سوق البيتكوين.
نظرة على دخول المؤسسات المالية إلى سوق العملات الرقمية
في بدايات البيتكوين، كان السوق يسيطر عليه المستثمرون الأفراد ومحبي التكنولوجيا. لكن بدءًا من عام 2020 تقريبًا، أخذت المؤسسات المالية الكبرى تزيد انخراطها تدريجيًا في سوق العملات المشفرة. وتشير البيانات الحديثة إلى أن هذا التوجه آخذ في التسارع. فعلى سبيل المثال، نحو 70% من حجم التعاملات بالعملات الرقمية في أمريكا الشمالية (خلال الفترة من منتصف 2023 إلى منتصف 2024) كان عبارة عن تحويلات فردية تتجاوز قيمتها 1 مليون دولار – مما يعكس نشاطًا مؤسسيًا كثيفًا في المنطقة. وبشكل عام، فإن أمريكا الشمالية تتصدر العالم من حيث تبني المؤسسات للعملات المشفرة مدفوعة بفضل ثقل الولايات المتحدة المالي والتقني. هذه الزيادة في النشاط المؤسسي صاحبها ارتفاع ملحوظ في القيمة السوقية؛ ففي مارس 2024 كسرت البيتكوين سعر 73,000 دولار محققةً أعلى سعر تاريخي لها حتى ذلك الوقت.
إقبال المؤسسات المالية التقليدية ظهر في عدة صور. بنوك استثمارية وشركات إدارة أصول عالمية بدأت تقديم خدمات مرتبطة بالبيتكوين، وبعضها استحدث أقسامًا متخصصة بالأصول الرقمية. على سبيل المثال، جولدمان ساكس وفيديليتي وبلاك روك – وهي من عمالقة وول ستريت – اتخذت خطوات جادة في مجال العملات المشفرة خلال 2024. كما أن شركات مدفوعات كبرى مثل فيزا وماستركارد شرعت في مشاريع تجريبية لدمج تقنيات الأصول الرقمية في أنظمتها.
الأهم من ذلك، تظهر استطلاعات الرأي والاستبيانات أن ثقة المستثمرين المؤسسيين في الأصول الرقمية تزداد مع مرور الوقت. فقد كشفت دراسة أُجريت في أوائل 2025 على 352 جهة استثمارية مؤسسية أن 83% منها تخطط لزيادة استثماراتها في العملات الرقمية خلال 2025. ليس ذلك فحسب، بل إن 59% من هذه المؤسسات تعتزم تخصيص أكثر من 5% من إجمالي أصولها تحت الإدارة لصالح التشفير في عام 2025 – وهي نسبة كبيرة تدل على انتقال البيتكوين من استثمار هامشي إلى مكون أساسي في المحافظ الاستثمارية. حتى صناديق التحوّط التقليدية بدأت تولي اهتمامًا واضحًا بالبيتكوين؛ إذ تشير تقارير حديثة إلى أن حوالي 47% من صناديق التحوط التقليدية باتت تمتلك انكشافًا على الأصول الرقمية في 2024 مقارنةً بـ29% فقط في 2023. هذه المؤشرات مجتمعة تبرز أن المؤسسات المالية أصبحت لاعبًا رئيسيًا يدفع عجلة السوق الرقمية إلى الأمام.
تأثير صناديق الاستثمار المتداولة (ETFs) على سعر البيتكوين
من أكثر التطورات التي عززت دخول المؤسسات إلى سوق البيتكوين هو إطلاق صناديق الاستثمار المتداولة الخاصة بالبيتكوين (Bitcoin ETFs). فقد أتاحت هذه الأدوات المالية للمستثمرين الكبار والصغار على حد سواء فرصة الحصول على تعرض للبيتكوين من خلال إطار استثماري منظم ومألوف (عبر البورصات التقليدية) دون الحاجة لشراء العملة والاحتفاظ بها بشكل مباشر. جاء أول تأكيد واضح على هذا الأثر في مطلع 2024 عندما تم الموافقة على تداول أول صناديق مؤشرات للبيتكوين في الولايات المتحدة، الأمر الذي اعتُبر نقطة تحول مفصلية. أعقب ذلك مباشرة موجة صعود في السوق؛ إذ ارتفعت أسعار البيتكوين عالميًا في ظل حالة من التفاؤل الكبير وتدفق السيولة من المستثمرين الباحثين عن الانكشاف عبر هذه الصناديق. ويُعزى هذا الطلب المتزايد إلى أن صناديق الـETF قدمت وسيلة مأمونة ومنظمة للاستثمار في البيتكوين، مما جذب شرائح جديدة كانت مترددة سابقًا بسبب تعقيدات إدارة المحافظ الرقمية والمخاوف التنظيمية.
البيانات المالية تدعم هذا التأثير بقوة. فبحسب إفصاحات الربع الرابع لعام 2024 في الولايات المتحدة، وصل حجم ما يحوزه المستثمرون المحترفون (الذين يديرون أصولًا تزيد عن 100 مليون دولار) من صناديق البيتكوين المتداولة إلى حوالي 27.4 مليار دولار – أي بزيادة تقارب 114% عن الربع السابق. هذا النمو الهائل تجاوز حتى نمو السوق الكلي لصناديق البيتكوين نفسها في تلك الفترة، مما يدل على إقبال مؤسسي غير مسبوق. وقد أصبحت المؤسسات تملك ما يزيد عن ربع إجمالي القيمة السوقية لصناديق البيتكوين الأمريكية مع نهاية 2024.
لنأخذ مثالًا على ذلك: صندوق iShares Bitcoin Trust (IBIT) التابع لشركة بلاك روك – وهو من أوائل وأبرز صناديق البيتكوين المتداولة – تمكن من جذب استثمارات مؤسسية ضخمة خلال فترة وجيزة. فقد بلغ عدد الأسهم التي تحتفظ بها المؤسسات في هذا الصندوق 306 مليون سهم بقيمة تعادل 16.3 مليار دولار في أواخر 2024. ويمثل ذلك حوالي 31.5% من إجمالي أصول هذا الصندوق، مما جعله أكبر منتج استثماري للبيتكوين من حيث القيمة الدولارية لدى المستثمرين المحترفين. وبشكل عام، منذ إعلان كبرى الشركات المالية – مثل بلاك روك وفانجارد – عن خطط لإطلاق صناديق متداولة للبيتكوين، شهد السوق موجات تفاؤل رفعت السعر لمستويات قياسية بحلول نهاية 2024. حتى أن سعر البيتكوين تخطّى عتبة 100,000 دولار لفترة وجيزة في أواخر 2024 قبل أن يستقر دونها بفعل بعض الضغوط الاقتصادية.
إلى جانب رفع الأسعار، يُعتقد أن وجود صناديق ETF قد يجلب قدراً أكبر من السيولة والاستقرار لسوق البيتكوين على المدى الطويل. فهذه الصناديق تسمح بتدفق رؤوس الأموال الضخمة بسرعة إلى السوق أو خروجها منه عبر منصات التداول التقليدية المراقبة، مما قد يقلل من التقلبات الحادة التي ميزت السوق سابقًا. وقد أشار تقرير لـ BlackRock Investment Institute أن التبني المؤسسي الأوسع للبيتكوين عبر أدوات مثل الـETF يمكن أن يُخفّف نسبيًا من تقلب سعره بمرور الوقت. وأكد التقرير ذاته أن الزيادة الواسعة في الاعتماد المؤسسي ستظل المحرك الأساسي لسعر البيتكوين مستقبلًا.
استثمارات الشركات الكبرى في البيتكوين وتأثيرها
إلى جانب صناديق الاستثمار، لعبت استثمارات الشركات والمؤسسات الكبرى بشكل مباشر في البيتكوين دورًا مهمًا في تشكيل السوق وإعطاء إشارات ثقة للمستثمرين الآخرين. في طليعة هذه الشركات تأتي شركة مايكروستراتيجي (MicroStrategy) الأمريكية، التي أصبحت مثالًا صارخًا على تبني الشركات للبيتكوين كأصل استراتيجي. بدأت مايكروستراتيجي بشراء البيتكوين في 2020 واستمرت في تعزيز حيازاتها بوتيرة متسارعة، حتى باتت أكبر حامل منفرد (غير حكومي) للعملة الرقمية في العالم. واعتبارًا من نهاية عام 2024، كانت الشركة تمتلك حوالي 447,470 بيتكوين في خزينتها (أي ما يعادل عشرات المليارات من الدولارات بأسعار ذلك الوقت). ووفق بيانها المالي، بلغ القيمة السوقية لحيازاتها 41.8 مليار دولار في 31 ديسمبر 2024، مما يوضح ضخامة رهان الشركة على البيتكوين. وقد واصلت مايكروستراتيجي الشراء خلال الربع الرابع 2024 بكثافة لافتة، حيث أضافت حوالي 218,000 بيتكوين إضافية بين نهاية الربع الثالث ونهاية العام – في أكبر زيادة فصلية على الإطلاق لحيازاتها. هذه الخطوة الجريئة ضخّت سيولة كبيرة في سوق البيتكوين وساهمت في دفع الأسعار للأعلى خلال تلك الفترة.
شركة عالمية أخرى هي تسلا (Tesla) التي أثار دخولها سوق البيتكوين ضجة كبيرة في أوائل عام 2021 عندما أعلنت استثمار 1.5 مليار دولار في العملة. وعلى الرغم من أن تسلا باعت جزءًا من مقتنياتها في وقت لاحق (75% من حيازتها في منتصف 2022 لأسباب تتعلق بالسيولة)، إلا أنها احتفظت بالجزء المتبقي. وتشير التقارير إلى أن تسلا لا تزال تملك حوالي 9,720 بيتكوين بنهاية 2023، وتبلغ قيمتها السوقية نحو 0.4 مليار دولار بحساب أسعار ذلك الوقت. هذا يعني أن تسلا – كرائدة في قطاع السيارات الكهربائية – ما زالت ضمن كبار حاملي البيتكوين بين الشركات المدرجة، حيث تأتي بعد مايكروستراتيجي وشركة التعدين ماراثون كأكبر ثالث حيازة مؤسسية. وتجدر الإشارة إلى أن ارتفاع سعر البيتكوين أواخر 2024 عاد بفائدة محاسبية كبيرة على تسلا؛ فقد سجلت الشركة أرباحًا دفترية تقارب 600 مليون دولار في الربع الرابع 2024 نتيجة قفزة سعر البيتكوين وتطبيق قواعد محاسبة جديدة أكثر ملاءمة للأصول الرقمية. وجود هذه الأرباح عزز من سردية أن البيتكوين يمكن أن يكون أصلًا خزينيًا يدر مكاسب للشركات في بيئة ارتفاع الأسعار.
إلى جانب هذين المثالين البارزين، هناك شركات كبرى أخرى انخرطت في البيتكوين بدرجات متفاوتة. شركة Block (سكوير سابقًا) بقيادة جاك دورسي استثمرت في البيتكوين وجعلته جزءًا من إستراتيجية تنويع السيولة. بعض الشركات في قطاعات مختلفة (مثل شركات التقنيات المالية وشركات التأمين) قامت أيضًا بشراء البيتكوين كجزء من احتياطياتها أو منتجاتها الاستثمارية. بل إن الأمر تجاوز القطاع الخاص إلى جهات سيادية: ففي الربع الأخير من 2024 برز صندوق أبوظبي السيادي كأول جهة حكومية تظهر في سجلات حائزي صناديق البيتكوين المتداولة، باستثمار يقارب 439 مليون دولار في تلك الصناديق. دخول صندوق سيادي بهذا الحجم هو مؤشر قوي على تنامي القناعة بأن البيتكوين استثمار مشروع وطويل الأجل حتى لدى الجهات المحافظة تقليديًا.
من حيث تأثير هذه الاستثمارات على السعر، فيمكن تلخيصه في نقطتين رئيسيتين: أولًا، التأثير النفسي والسوقي لإعلانات الشراء من قبل شركات معروفة. كلما أعلنت شركة كبيرة عن شراء بيتكوين أو تبنيها كأصل احتياطي، ارتفع منسوب الثقة بالسوق وغالبًا ما نرى ارتفاعات فورية في السعر نتيجة موجة التفاؤل. حدث ذلك بوضوح عند إعلان تسلا في 2021، ويتكرر الأمر مع كل خبر عن مؤسسة مالية عريقة تدخل المجال. ثانيًا، تأثير هيكلي على معادلة العرض والطلب؛ فحين تجمع شركات مثل مايكروستراتيجي مئات الآلاف من الوحدات وتتعهد بالاحتفاظ بها طويلًا، فهي effectively تقوم بسحب كمية ضخمة من المعروض المتداول للبيتكوين من السوق. هذا النقص النسبي في العرض مقابل طلب متزايد يؤدي بطبيعة الحال إلى ضغط تصاعدي على السعر على المدى المتوسط والطويل. وبالفعل، ساهمت استراتيجية "الخزانة البيتكوينية" التي اعتمدتها بعض الشركات في تعزيز أداء البيتكوين وجعلت تقلباته ترتبط جزئيًا بقرارات هذه الجهات. ويمكن القول إن الشركات العامة الحاملة للبيتكوين أصبحت تشكل طبقة جديدة من حاملي المدى الطويل، مما يضفي على السوق قدرًا أكبر من الاستقرار النسبي مقارنة بمرحلة سيطرة الأفراد وحدهم.
التحديات والفرص الناتجة عن تبني المؤسسات للبيتكوين
دخول المؤسسات المالية يحمل معه مجموعة من التحديات وكذلك الفرص لسوق البيتكوين:
التحديات التنظيمية والقانونية: ما زالت البيئة التنظيمية للعملات المشفرة قيد التطور. الكثير من المؤسسات التقليدية تتحفظ بسبب عدم اليقين التنظيمي والخوف من تغيّر القوانين أو التدابير الرقابية المفاجئة. على سبيل المثال، شهدت الولايات المتحدة دعاوى قضائية بارزة (مثل قضية هيئة الأوراق المالية ضد شركة ريبل) أثارت تساؤلات حول كيفية تصنيف وتنظيم الأصول الرقمية. هذا التردد التنظيمي يشكل عقبة أمام بعض المؤسسات التي تتطلب وضوحًا قانونيًا قبل تخصيص أموال كبيرة في هذا المجال. ومع ذلك، هناك بوادر إيجابية عالميًا نحو أُطر أكثر وضوحًا – مثل لائحة MiCA الأوروبية لتنظيم الأصول المشفرة – والتي قد تشجع مشاركة المؤسسات عبر توفير قواعد شفافة.
تقلبات السوق والمخاطر الاستثمارية: رغم أن تقلب سعر البيتكوين بدأ يهدأ قليلًا مقارنةً بسنوات ماضية، إلا أنه لا يزال عالي التقلب قياسًا بالأصول التقليدية. قد تتجنب بعض المؤسسات الاستثمارية دخول سوق شديد التذبذب خوفًا على أموال عملائها وحقوق المساهمين. فخلال العقد الماضي شهدت البيتكوين عدة دورات هبوط حاد تجاوزت نسبة التصحيح فيها 70% وأكثر. هذه التقلبات الحادة تتطلب من المؤسسات بناء استراتيجيات إدارة مخاطر محكمة. بالفعل، بدأت مؤسسات كثيرة بالاستعانة بالمشتقات المالية مثل العقود المستقبلية والخيارات لتحوط مراكزها مقابل تغيرات السعر. كما أن توافر عقود البيتكوين الآجلة على بورصات منظمة (مثل CME) وفر أدوات للتحوط وجعل الانكشاف أكثر قابلية للضبط. ومع توسع المشاركة المؤسسية، من المتوقع أن تقل التقلبات تدريجيًا نظرًا لزيادة عمق السوق وارتفاع حجم التداولات، وإن لم تختفِ المخاطرة بشكل كامل.
اعتبارات الأمان والبنية التحتية: احتضان الأصول الرقمية يفرض على المؤسسات التأكد من توفر حلول حفظ أمينة ضد الاختراقات والسرقات، إضافة إلى الامتثال لمتطلبات مكافحة غسيل الأموال. حوادث القرصنة الشهيرة (مثل اختراق بورصة Mt. Gox في 2014) رسخت مخاوف حول أمن الأصول الرقمية. لكن في المقابل، شهدت السنوات الأخيرة تطور خدمات الحفظ المؤسسي بشكل كبير؛ فشركات متخصصة مثل Anchorage Digital وغيرها تقدم حلولًا أمنية متقدمة (تشفير متعدد الطبقات، مفاتيح موزعة، تغطية تأمينية) موجهة خصيصًا لتلبية معايير المؤسسات. ومع حصول بعض هذه الشركات على تراخيص بنكية أو موافقات رسمية، بات لدى المؤسسات طرق مأمونة نسبيًا للاحتفاظ بالبيتكوين نيابة عنها.
مخاوف الاستدامة والبيئة: هناك جانب آخر لا يمكن إغفاله يتمثل في البصمة الكربونية لعملة البيتكوين الناتجة عن استهلاك الطاقة في التعدين (بسبب آلية إثبات العمل). في عصر أصبحت فيه معايير الـESG (البيئية والاجتماعية والحوكمة) حاضرة بقوة في قرارات الاستثمار، تتردد بعض المؤسسات (خاصة صناديق التقاعد وشركات التأمين) في الاستثمار بالبيتكوين خوفًا من الانتقاد بأنها تدعم أصلًا غير صديق للبيئة. لكن الجهود المبذولة في القطاع لتحسين الاستدامة تكتسب زخمًا: فقد زادت نسبة الاعتماد على الطاقة المتجددة في عمليات التعدين العالمية، وبدأت شركات التعدين الكبرى عام 2024 بالإعلان عن مبادرات لاستخدام الطاقة النظيفة وتقليل الانبعاثات. ورغم استمرار الجدل حول مدى استدامة البيتكوين، فإن تحسن الأداء البيئي لشبكات البلوكشين (كتحوّل إثيريوم إلى آلية إثبات الحصة الأقل استهلاكًا للطاقة) وانخراط قطاع التعدين في حلول خضراء قد يخففان من حدة هذه المخاوف مع الوقت.
مقابل هذه التحديات، هناك فرص وفوائد كبيرة لتبني المؤسسات المالية للبيتكوين:
زيادة السيولة واستقرار السوق: دخول رؤوس الأموال المؤسسية الضخمة يرفع سيولة سوق البيتكوين بشكل غير مسبوق. فالمؤسسات عادةً ما تتداول بأحجام كبيرة وتستخدم استراتيجيات متنوعة (كالتداول الخوارزمي وصناعة السوق)، مما يؤدي إلى عمق أكبر لدفتر الأوامر وتقليص التقلبات الناتجة عن صفقات الأفراد الصغيرة. وقد أشارت دراسة لبلاك روك إلى أن الملكية الواسعة للبيتكوين عبر المؤسسات قد تُساهم في تخفيف تقلب الأسعار بمرور الوقت. كذلك، المؤسسات تميل إلى الاستثمار برؤى طويلة الأجل، وبالتالي فإن احتفاظها بالبيتكوين يقلل المعروض العائم ويخلق قاعدة دعم سعري أقوى.
إضفاء الشرعية والقبول العام: عندما تُقبل المؤسسات المالية التقليدية على البيتكوين، فهي تضفي عليه شرعية في نظر الجمهور وصناع القرار. لقد تغيرت لهجة الكثير من الحكومات والهيئات التنظيمية بعد رؤية بنوك كبرى ومديري أصول يتبنون الأصول الرقمية. هذا الزخم المؤسسي يُشجع المزيد من الوضوح التنظيمي بدلًا من الحظر والمنع، كما حدث في أوروبا مع تبني إطار MiCA الشامل. وبصفة عامة، صار يُنظر إلى البيتكوين بشكل متزايد على أنه أصل استثماري معترف به يمكن أن يوجد ضمن محافظ البنوك الاستثمارية تمامًا مثل الذهب أو الأسهم. ولعل موافقة هيئة الأوراق المالية الأمريكية (SEC) على صناديق بيتكوين متداولة في 2024 هي خير برهان على هذا التحول نحو القبول.
تنويع المحافظ والتحوط: توفر البيتكوين فرصة فريدة لتنويع المحافظ الاستثمارية بفضل علاقتها المختلفة نسبيًا عن الأصول التقليدية. فبحسب خبراء بلاك روك، البيتكوين غير مترابط بقوة مع الأسهم والسندات على المدى الطويل، مما يعني أن إضافته (بنسبة صغيرة) للمحفظة قد يحسّن نسبة العائد إلى المخاطرة. بالفعل، أوصى محللو بلاك روك بنسبة 1-2% من المحفظة للبيتكوين كوزن مناسب يحقق فائدة التنويع دون مبالغة في المخاطر. من جهة أخرى، يعتبر بعض المديرين البيتكوين ذهبًا رقميًا يمكن استخدامه كوسيلة للتحوط ضد مخاطر التضخم أو تراجع قيمة العملات، خاصة في ظل محدودية معروضه الكلي بـ21 مليون وحدة. هذا التصور كملاذ آمن إلى جانب الذهب بدأ يكسب تأييدًا أكبر مع تبني المؤسسات، مما قد يعزز الطلب عليه في أوقات الضبابية الاقتصادية.
ابتكار منتجات مالية جديدة: دخول المؤسسات فتح الباب أمام ابتكار أدوات مالية مشتقة ومنتجات استثمارية مرتبطة بالبيتكوين. فإلى جانب الـETFs، ظهرت صناديق استثمار مشتركة في العملات الرقمية، ومنتجات ادخارية تدمج البيتكوين، وحتى سندات وسندات قابلة للتحويل مرتبطة بأداء البيتكوين. مثل هذه الابتكارات تزيد من قنوات الوصول إلى البيتكوين وتجذب شرائح أوسع من المستثمرين الذين يفضلون القوالب التقليدية. كذلك، تقنيات التمويل اللامركزي (DeFi) بدأت تستقطب بعض المؤسسات بحثًا عن عوائد مجزية، ومع الوقت قد نشهد اندماجًا أكبر بين عالم الـDeFi والمؤسسات المالية التقليدية لتقديم خدمات إقراض واقتراض وتداول مشفرة بشكل مؤسسي.
باختصار، على الرغم من تحديات التقلب والتنظيم والأمان التي تواجه تبني المؤسسات للبيتكوين، فإن الفوائد المحتملة من حيث استقرار الأسواق وتوسعها وتنويعها تجعل هذا التوجه ذا آثار إيجابية طويلة المدى على منظومة الأصول الرقمية ككل.
في الختام، يبدو أن دور المؤسسات المالية في سوق البيتكوين سيزداد رسوخًا مع مرور الوقت. فبعدما كانت البيتكوين تُعتبر حكرًا على الأفراد والمضاربين، أصبحت الآن أصلًا يهتم به مديرو الاستثمار الكبار والبنوك وحتى الحكومات. وقد أثبتت تجربة 2024 أن تدفق رؤوس الأموال المؤسسية يمكن أن يرفع سعر البيتكوين إلى آفاق غير مسبوقة، ولكنه أيضًا يساهم في بناء سوق أكثر نضجًا واستقرارًا على المدى البعيد. ومع استمرار هذا الاتجاه، سنشهد بلا شك تحول البيتكوين من ظاهرة مالية ناشئة إلى مكون ثابت في النظام المالي العالمي تدعمه ركائز مؤسسية وتنظيمية قوية.